السياسات الاقتصادية السلوكية تستهدف بالأساس تحسين استجابة الأفراد للسياسات العامة وزيادة مستويات كفاءتها
اتجاه صانعي السياسات بشكل متزايد إلى العلوم السلوكية لمعالجة تحديات السياسة الاقتصادية
هناك ما لا يقل عن 202 جهة حكومية على مستوى العالم تستفيد من الاقتصاد السلوكي في صياغة السياسات العامة بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية
الدلائل الدولية تشير إلى الأثر الإيجابي لاستخدام الاقتصاد السلوكي في زيادة الادخار القومي، والامتثال الضريبي، والالتزام بسداد القروض المصرفية، وترشيد الإنفاق
توجه جديد لدى بعض الدول العربية نحو تبني السياسات السلوكية وجعلها جزءاً من عملية تصميم السياسات العامة، وإنشاء وحدات ومراكز للتنبيه والحث السلوكي
في إطار حرصه على تطوير أنشطته البحثية، أصدر صندوق النقد العربي العدد التاسع عشر من سلسلة موجز سياسات حول "استخدام الاقتصاد السلوكي في دعم عملية صنع السياسات الاقتصادية: تجارب إقليمية ودولية". خُصّص هذا العدد لموضوع الاقتصاد السلوكي الذي يعتبر أحدث فروع علم الاقتصاد وصارت له تطبيقات واسعة في الكثير من دول العالم في تصميم وبناء سياسات سلوكية تهدف لدعم السياسات الاقتصادية.
أشار الموجز إلى أن تواتر الأزمات التي أصابت الدول منفردة أو النظام الاقتصادي العالمي أدى إلى تزايد الشكوك حول صلاحية نماذج الاقتصاد الكلي التقليدية، والفرضيات التي تستند عليها، وحتى المبادئ التي تقوم عليها. فهي من الناحية النظرية تميل إلى المثالية من خلال افتراض كفاءة الأسواق وعقلانية الأفراد، وتتسم بالجمود بسبب طبيعة النماذج الرياضية والإحصائية التي تستند إليها. أما على مستوى التطبيق، فقد تكررت الأزمات الاقتصادية والمالية التي عجزت المبادئ النظرية عن تفسيرها وقصّرت النماذج الاقتصادية التقليدية في التنبؤ بها أو التقليل من آثارها.
على سبيل المثال، بعد أن وصلت نظرية كفاءة الأسواق ذروتها في سبعينيات القرن العشرين، وصار الإعتقاد بصحتها كجزء من الفكر الاقتصادي، تضاءلت الثقة بهذه النظرية وتوابعها، ما دفع الكثير من الأكاديميين فضلاً عن متخذي القرار إلى الشك في جدوى تلك النماذج، وقناعتهم بحاجتها إلى مراجعات شاملة تبدأ من الفرضيات والأسس التي تستند إليها، وتنتهي بالنماذج والتطبيقات التي تنبثق عنها، لتبدأ بذلك حقبة جديدة في الفكر الاقتصادي مع ظهور علم الاقتصاد السلوكي.
تناول الموجز أهم أسس علم الاقتصاد السلوكي، حيث يستمد أسسه من علمي الاقتصاد والنفس، وبدرجة أقل من علم الاجتماع، وظهر كردة فعل على انتشار استخدام النماذج الكمية والمعادلات الرياضية على علم الاقتصاد ما جعلها تميل إلى الجمود فضلاً عن تواتر عدم القدرة على فهم الكثير من الحيثيات ذات العلاقة باتخاذ القرارات المالية وقصور في التنبؤ أو في تفسير أسباب القصور التي تحدث في الأسواق. تحدى علم الاقتصاد السلوكي فرضيتين أساسيتين في علم الاقتصاد وهما: فرضية العقلانية وفرضية كفاءة الأسواق، حيث توجد أدلة متزايدة تثبت أن الفرضيتين لا يمكن التسليم بصحتهما بشكل تام، وأن على صناع السياسات ومتخذي القرارات إدراك ذلك، وفهم الجوانب النفسية المرتبطة باتخاذ القرار الاقتصادي والمالي.
رغم حداثة مجال الاقتصاد السلوكي، إلا أنه لفت الأنظار إلى إمكانية استخدامه لدعم السياسات العامة وفي عملية التنمية المجتمعية من خلال صياغة برامج تنموية تخاطب الفرد بناء على احتياجاته وثقافته، مع الأخذ بالاعتبارات النفسية التي تؤثر على قيامه بسلوك معين. كما يمكن استخدامه كمنهج في السياسات العامة وصياغة قرارات تحقق التنمية والأهداف المجتمعية من خلال دراسة سلوكيات الأفراد. لا يقتصر الأمر على صعيد الحكومات، وإنما باتت هناك إمكانية كذلك لاستفادة قطاع الشركات من تطبيقات الاقتصاد السلوكي.
يوجد اليوم العشرات من الدول التي قامت بدمج الرؤى السلوكية في عملية صنع السياسات، حيث تشير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن هناك ما لا يقل عن 202 جهة حكومية عبر العالم تستفيد من الاقتصاد السلوكي في صياغة السياسات العامة. يتم تطبيق السياسات السلوكية من خلال ما يعرف بوحدات الحث السلوكي (وتسمى كذلك وحدات التبصر السلوكي). ومع ذلك لا يوجد نموذج واحد يمكن وصفه على أنه الأنجح أو الأفضل للجميع، بل تختلف التطبيقات وتتنوع، فبعضها قائم على المركزية وبعضها لا مركزياً.
اهتم كذلك هذا العدد من موجز سياسات باستعراض بعض تطبيقات سياسات الحث السلوكي وكيف يمكنها دعم عملية تصميم وتنفيذ السياسات الاقتصادية، وتناول مجموعة التجارب الناجحة في مجالات زيادة الامتثال الضريبي، وبرامج التقاعد وتحفيز الادخار وتقليل المماطلة في سداد الديون، كما استعرض أهم التطبيقات الرائدة للاقتصاد السلوكي في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وأجرى مسحا لأهم تطبيقاته في الدول العربية، حيث أظهر أن هناك اهتماماً متزايداً من الدول العربية بالسياسات السلوكية، حيث تتبنى كل السعودية، والكويت، وقطر، ولبنان، وعُمان، والإمارات أحد أشكال سياسات التبصر (الحث) السلوكي.
اختتم العدد بتناول دور السياسات السلوكية في الاستجابة لجائحة كوفيد-19، وأشار الموجز إلى أن السياسات التقليدية (النقدية والمالية على وجه الخصوص) تقود حالياً عمليات ترميم ما سببته الجائحة، في حين ما تزال طرق التدخل السلوكي محدودة، ذلك أن التنبؤ بإمكانية وفعالية التدخلات السلوكية المستقبلية سواء في مجال السياسات الاقتصادية أو الصحة العامة، وطريقة الاستجابة للتدخلات السلوكية في ظرف استثنائي يعتبر أمراً في غاية الصعوبة. ومع ذلك، تتيح السياسات السلوكية مجموعة من الخيارات ممكنة التطبيق في ظل هذه الظروف الاستثنائية. كما أن اعتبار الرؤى السلوكية كجزء من استجابة شاملة لجائحة كوفيد-19، أمر في غاية الأهمية، فالاقتصاد السلوكي يمكنه المساهمة في فهم الأوضاع الجديدة للاقتصاد، ومن بينها كيفية تأثر سلوك الأفراد في ظروف الجوائح، وتداعيات الجوائح على أسواق العمل وأنماط الإنفاق والاستهلاك والادخار.
النسخة الكاملة من العدد متاحة على الرابط